إذا ما نظرنا إليها من الزاوية التاريخية، فإننا نلاحظ أن إدارة بوش، منذ هجمات 11 سبتمبر، قد أطالت النظر والتمحيص في الماضي، كي يتسنى لها التطلع نحو مستقبل أكثر إشراقاً. وفيما يبدو فقد برع الرئيس بوش في هذا الأمر بالذات، إذ طالما سمعناه يردد مقولته الشهيرة:"لا مناص من أن تصل شعلة الحرية التي لا تخمد نارها ذات يوم قريب، إلى أقصى أركان العالم وأكثرها ظلمة". غير أن حادث الاغتيال الذي تعرضت له زعيمة المعارضة الباكستانية "بينظير بوتو"، إنما يذكّرنا مجدداً بأن أحداث التاريخ قد تجري بما لا تشتهي السفن، أي بعناد التاريخ وتمرده على رغباتنا. لكن ومع ذلك، فها نحن نرى بوش، وهو يريد لنا أن نظل على إيماننا بالأهواء. فللتاريخ – كما يؤكد- اتجاه واضح رسمته الحرية وأبطالها". ومن رأيه أن ذلك الاتجاه يؤدي إلى طريق السلام والحرية للبشرية جمعاء. وعليه فلا مناص للتاريخ من أن يمضي نحو هذه الغايات المرسومة له مسبقاً. والأكثر إلحاحاً منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، هو أن الواجب الأهم الملقى على عاتق الولايات المتحدة الأميركية، هو حمل شعلة الحرية إلى العالم الإسلامي. والافتراض هو انحسار الخطر الإرهابي ما أن تنتشر الحرية والديمقراطية هناك. وهذا هو الافتراض الذي بُني عليه الغزو الأميركي لكل من العراق وأفغانستان. ولكن الذي اتضح عملياً أن هذا التحرير العسكري قد جاء مصحوباً بالكثير من التناقضات، التي ليس أقلها الشراكة القائمة حالياً بين واشنطن وإسلام أباد. فكثيراً ما كرر بوش وصفه لنظيره الباكستاني، بأنه حليف موثوق به ولا غنى عنه. ومنذ هجمات 11 سبتمبر وإلى اليوم، قدمت الولايات المتحدة الأميركية مساعدات لباكستان تبلغ قيمتها حوالي 10 مليارات دولار على أقل تقدير، خصص الجزء الأعظم منها للمساعدات العسكرية. وسعياً وراء آمالها في استقطاب تعاون إسلام أباد معها في حربها المعلنة على الإرهاب الدولي، فقد تجاهلت واشنطن سجل باكستان، التي ربما تعد الدولة الأشد خطراً فيما يتعلق بانتشار السلاح النووي. ليس ذلك فحسب، بل لم يعلن حليفه برويز مشرف، أي التزام يشاطر به نظيره الأميركي حماسه لنشر الحرية والديمقراطية حتى الآن. فقد استولى مشرّف على مقاليد الحكم في بلاده عبر انقلاب عسكري في عام 1999، بصفته عسكرياً محترفاً. ومنذ ذلك التاريخ حافظ على كونه رئيساً تطغى ميوله الإسلامية على أي ميول ليبرالية، إلى جانب سيطرة الهوس الأمني عليه إزاء الجارة الهند. وفي الثالث من نوفمبر الماضي، أعلن مشرّف حالة الطوارئ في البلاد، ذريعة لاعتقال معارضيه ومنتقديه، وللتخلص من مضايقة المحكمة العليا له. لكنه عاد ليضع حداً لحالة الطوارئ هذه في الخامس عشر من ديسمبر الماضي. والواجب أن نأخذ بهذه المؤشرات الديمقراطية الصادرة من إسلام أباد، بذات الجدية التي يدعو بها بوش الآن إلى وفاق ثنائي حزبي في واشنطن، وألا تنطلي علينا مجرد زخرفة ديمقراطية رخيصة تقدمها لنا إسلام أباد. لكن وفي الوقت الذي لا يزال مشرّف يقدم نفسه فيه على أنه حليف داعم للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة في أفغانستان، بغية تحقيق الاستقرار واستتباب الأمن فيها وتعزيز تحولها الديمقراطي، فقد غضت واشنطن الطرف عن نزعاته اللاديمقراطية. وليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ الأميركي، التي توضع فيها المثل والقيم جانباً، لمصلحة سيادة الحسابات السياسية العملية. فعلى رغم حديث واشنطن المستمر عن نشر قيم الحرية والديمقراطية في ظل الإدارة الحالية، فإنها آثرت التحالف في باكستان مع شخصية قوية وعدت بالتعاون معها ضد تنظيم "القاعدة" ومقاتلي حركة "طالبان"، على رغم أن تعاون إسلام أباد الفعلي ضد الجماعات الراديكالية المتطرفة الناشطة داخل الحدود الباكستانية، لم يكن سوى مجرد تعاون شكلي. لكن وخلال العام الأخير، لم يبد رجل باكستان القوي، بتلك القوة التي وصف بها. ولم تخط من جانبها واشنطن لممارسة المزيد من الضغط على إسلام أباد، بغية حملها على اللحاق بركب التحول الديمقراطي، إلا حين لاحت لها ملامح ضعف الجنرال مشرّف. وكانت بداية واشنطن في هذا الطريق، الضغط باتجاه إبرام صفقة شراكة سياسية بين مشرف وبوتو. وما أن أخفقت تلك الخطوة، حتى واصلت واشنطن إصرارها على إجراء الانتخابات العامة في موعدها المحدد، من أجل إضفاء الشرعية اللازمة على نظام الحكم. غير أن قاتل "بوتو" تمكن من إحباط هذه الخطط جميعاً، دافعاً بذلك باكستان إلى موجة اضطرابات، هي الأقوى والأشد في تاريخها الحديث، بينما أرغم بوش على التمسك بحليف باكستاني، يبدو في الكثير من صوره وحالاته اليوم، أقرب إلى الشاه الإيراني. وبما أن نذر "خسارة باكستان" قد لاحت الآن، فما الذي يتعين على الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم فعله؟ هل تواصل دعمها لمشرّف على علاته، باعتباره البديل الوحيد الحالي لانتشار الفوضى والعنف هناك، أم أن على إدارة بوش أن تتمسك بالتزامها ببناء ديمقراطية قوية في باكستان، دون تقديم أي تنازلات عنها؟ وفي إثارة مثل هذه الأسئلة ما ينطوي على افتراض أن لواشنطن القدرة على التأثير على مسار الأحداث في إسلام أباد. غير أن تطورات الأسبوع الماضي على الساحة الباكستانية، وعلاقات واشنطن بإسلام أباد على مر العقود، تشيران إلى عكس هذا الافتراض تماماً. وعليه فليس لواشنطن من حيلة لتقرير مصير إسلام أباد. أندرو باسيفيتش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"